الجمعة، 27 سبتمبر 2019

سياحة في عالم أسماك النيل

سياحة في عالم أسماك النيل
عدد الفصل الثالث 2019
حيدر التوم خليفة
أذكر عندما كنا صغاراً، كنا نقضي معظم يومنا على شاطئ النيل الأبيض عند مدينة الدويم، وذلك إما ممارسة لهواية الصيد أو رياضة السباحة.
صيد السمك ظل يمثل حرفة للعديد من قاطني الضفاف النيلية كما يمثل متنفساً لإنعاش الروح وتسلية النفس وقضاء وقت جميل في هواية صيد الأسماك وهو الأمر الذي نفتقده اليوم.. فهذا عالم قد فارقناه تماماً للأسف.
علماء الحياة البحرية يعدّون الدراسات الإحيائية لعالم الأسماك والحيتان ومخلوقات البحار والأنهار، من أمتع الدراسات في الحقل العلمي. وقد زاوجت معظم الدراسات العلمية الحديثة لعالم الأسماك بين المنهج العلمي والموروث الثقافي للأسماك، ويشمل ذلك عالمها الخاص بالتزاوج والتكاثر والترحال والطعام وسبل صيدها.
وهناك ثروة علمية كبيرة يحويها الإرث الشعبي في السودان، وذلك لتعدد الأنهار وبيئات تكاثر الأسماك، ويمتد ذلك إلى عالم البحار حيث الحيتان الكبيرة. ومن المعروف أن الحيتان تختلف بصورة كبيرة عن الأسماك إذ إنها من الثديات التي تلد وترضع صغارها، بينما الأسماك تبيض وتطعم صغارها أو تعد لهم البيئة المناسبة لتوفر وتناول الطعام.
ويكاد السودان أن يكون البلد الوحيد في العالم العربي الذي يستعمل لفظ حوت مترادفاً للفظ سمك.. وهذا الأمر له دلالات عميقة عند دارسي الأديان وجغرافيا وتاريخ النبوة والأنبياء.. ومثال لذلك البحث القيّم الذي ورد في كتاب (نبي من بلاد السودان) للشيخ النيل ابوقرون الذي يفيد بأن نبي الله موسى عليه السلام من هذه البلاد وأن قومه عاشوا قديماً في أرض كوش.. وقصته مع العبد الصالح (المعروف بالخضر) ومع فتاه (المعروف بيوشع) والتي تعني في اللغة الكوشية القديمة والحاضرة خادم، والتي تم فيها ذكر الحوت إشارة للسمك (..فاني نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان أن أذكره ..)، وهو السمك الذي كان يدخره موسى عليه السلام لطعامه، والذي أراه إما أن يكون سمكاً محفوظاً مجففاً، أو مملحاً (كجيك .. فسيخ)، وذلك لأن الحوت لا يمكن لشخص أن يحمله وحده.. كما أن الاسم الشائع والمتوارث لصائدي السمك في السودان هو الحواتة.. وهناك مدينة كاملة تحمل هذا الاسم.
ومع تعدّد الأنهار في السودان تتعدّد مصادر الثروة السمكية وتتعدد الأنواع .. وفي ما يلي نورد بعضاً من أنواع الأسماك الموجودة في السودان وأسمائها وبعضاً من مميزاتها التكوينية.
الأسماك العشبية:
1/ البلطي: يعرف أيضاً باسم خادم الميري .. وهو سمك نيلي يشار إليه علميا بـ"النايولتكا".. وهو أوسع الأنواع انتشاراً وأهمها من الناحية الاقتصادية، وقد كان حكراً على الأنهار الأفريقية ولكن تمت زراعته في معظم دول العالم خاصة أنه مربح اقتصادياً.
والبلطي من الأسماك التي تعيش أساساً على الأعشاب والنباتات والحبوب، لكن بعضها أحياناً يقتات على الأسماك الأخرى ممّا يدخلها في خانة الأسماك الرمية.
ومن الأشياء التي تتميز بها أسماك البلطي أنها تستطيع التكاثر من خمس إلى ستّ مرات في العام، وتبيض السمكة في المرة الواحدة ما بين (300) إلى (400) بيضة، وتقوم أنثى البلطي بحضن البيض داخل فمها حتى يفقس (زريعة) وتحمله أيضاً لفترة قد تتجاوز الأسبوعين حتى يكبر ويستطيع الاعتماد على نفسه في العيش بعيداً عنها. وطيلة هذه الفترة تظل الأنثى صائمة عن الطعام لهذا تجدها تفقد جزءاً مقدراً من وزنها.
ومن المعروف أن كل الأسماك يتم تلقيح البيض فيها خارجياً.. أي من غير اختلاط جنسي.. وفي حالة البلطي يقوم الذكر باختيار ما بين ثلاث إلى أربع إناث ومن ثم حفر حفرة كبيرة تعدّ محرمة على الآخرين، خاصة ذكور البلطي الآخرين، وهو مستعد للقتال بشراسة عن منطقته حتى الموت ضد المتطفلين.. وبعد التلقيح تقوم الأنثى بوضع البيض في فمها في فترة حضانة تستمر لعدة أيام.
تحتاج سمكة البلطي لحوالي العام حتى يصل وزنها إلى واحد كيلو جرام، وقد تمت تربيتها في العديد من المزارع حول ولاية الخرطوم.. إذ يتم جلب صغارها (زريعة) ووضعها في أحواض مخصصة لذلك ومن ثم علفها وفق تركيبة غذائية معينة.
2/ ومن الأنواع العشبية الأخرى.. خشم البنات، وتسمى الماصة وأيضاً الدبسة وهي كثيرة الشوك.. إضافة إلى الخريشة والكوارة والصفصاف والحميلات وهي أسماك صغيرة تستعمل في الفسيخ تتراوح أوزانها بين (90- 150) جراماً فقط .. إضافة إلى الشلباية والفرشاية والبنية.
الأسماك اللحمية .. (أسماك القط):
وهي التي تعتمد في غذائها على الأسماك الأخرى (لاحمة)، وتسمى بأسماك القط، إذ إنها جميعاً تمتلك شوارب مثل شوارب القط وتشمل عائلات:
- العجل، البياض، القرموط ويعرف أيضا بـ"البلبوط، الكبروس ومنه فصيلة أبو ريالة "بامسيكة"، القرقور ويعرف أيضاً بـ"الكنكيج" ولديه شوكة قاتلة على ظهره، وأيضاً من عائلة القرقور "حمار السمك" أو "أبو زمارة" وهو من أفضل الأنواع في صينية السمك.. عائلة الكاس، ويعرف في مصر بـ"البوري" وله أنياب حادة وهو من أطيب أنواع السمك ونصنع منه أجود أنواع الفسيخ خاصة الكبير منه، وهو أكثر الأنواع بياضاً من ناحية اللحم، يليه العجل.. والكثير يفضله على العجل في السمك المقلي.
معظم الأسماك اللاحمة تتميز بالسرعة الفائقة في مطاردة فريستها واصطيادها.. ويتم ذلك عن طريق البلع الكامل لها.. وهي تفضل الأسماك الصغيرة كاملة ومعظمها لا يميل إلى أكل الجيف.
ولعل أشهر أنواع السمك اللاحم هو العجل، ويتميز بطيب اللحم ووفرته وخلوه من الشوك إضافة إلى خلوه من (الزفارة) أو الرائحة النفاذة الملازمة للأنواع الأخرى.
- البردة وتعرف بالسمكة الصاعقة أو السمكة الكهربائية، وذلك لحملها شحنة كهربائية قد تصل إلى (3000) فولت وتستطيع شل إنسان ومن ثم التسبب بغرقه.. وعادة ما تستعمل طاقتها الكهربائية في اصطياد فريستها من الأسماك الأخرى. ومن المعروف أن معظم السمك "الفرايد" المستعمل في المطاعم هو من "التامبيرة والبردة والقرموط والنوق".
- الأسماك الرمية:
وهي التي تقتات على الأعشاب واللحوم ومن أهمها:
البلطي، القرموط وهو شبه برمائي إذ يستطيع أن يتنفس خارج الماء لهذا غالباً ما نجده في الخيران والجداول ومصارف المياه ويظل حياً لفترة طويلة بعد صيده، أب قرف ويعرف أيضا بالنوق.. وقد قل وجوده في السودان، وقديماً كان منتشراً بكثرة في النيل الأبيض ويمثل الغذاء الرئيسي لساكني ضفاف الأنهار والحدود من أبناء جنوب السودان، وعادة ما يتم طهوه مع حبوب الذرة الفتريتة كاملة (بليلة السمك).
أيضاً هناك الوير ويسمى بـ"أبو سوط".. وذلك لتميزه بذيل طويل يشبه السوط وقد انعدم تقريباً في السودان ولكنه ما زال موجوداً بكثرة في جنوب السودان لأنه يعيش في منطقة السدود.. وبعض أنواعه تشترك مع سمك السلمون بميزة الانتحار بعد وضع البيض والتزاوج.. فمن المعروف أن سمك السلمون يهاجر آلاف الكيلومترات حيث يضع بيضه ويموت. وفترة تكاثر وتزاوج الوير تمتد لعامين ما بين كل تلقيح وآخر وتضع الأنثى مابين (30 –  ألف)40 بيضة في المرة الواحدة.
هناك بعض الأسماك التي تضع ملايين البيوض في المرة الواحدة ولكن لا ينجو من هذا العدد الهائل إلا عدد قليل جداً يعد بالعشرات فقط وذلك لعدة أسباب أهمها: دورة الحياة إذ إن هذه البيوض تعدً غذاءً رئيسياً لبعض الأنواع الأخرى، كما أن هناك نسبة فقد عالية خلال التلقيح أو بعده، إذ تمثل صغار السمك وجبات دسمة للعديد من الأسماك الأخرى. هذا إضافة إلى الصيد الجائر الذي أدى لانقراض بعض الأنواع التي كانت سائدة بكثرة في السودان مثل دبيب الحوت (ثعبان السمك) والبنية والصفصاف.. وأم كورو أو سمكة الطين التي تدفن جسمها في الطين عند انحسار المياه، وتظل في بيات شتوي حتى عودة المياه في موسم الخريف وزيادة منسوب المياه ومن ثم تعود إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى.
من الأشياء التي أدت إلى تناقص عدد الأسماك وانقراض بعضها هو الصيد الجائر واستعمال شبكة السيلكا ذات الفتحات الصغيرة، واستعمالها ممنوع قانونياً، لكن نسبة لضعف الرقابة من المؤسسات المسؤولة عن حماية الثروة السمكية خاصة في الولايات فإن استعمالها شائع بكثرة.
طرق الصيد:
من أهم طرق صيد الأسماك في النيل الأبيض:
- الشباك: ولها مواصفات معينة (صغيرة يدوية.. وطويلة للمراكب).
- الجقو: وهو عبارة خيط يعلق عليه عدد من السنارات.
- الرماي: وهو عبارة عن خيط من العصب طوله يفوق الخمسة عشر متراً ويستعمل في اصطياد الأسماك الكبيرة مثل العجل والكاس والبياض.
- الجبادة: وهي عبارة عن خيط طوله ما بين مترين إلى ثلاثة تستعمل في اصطياد الكوارة والبلطي والشلباية... الخ.
- السنارة: وطولها حوالي المتر وتستعمل في اصطياد الحميلات.
- الكر: وتستعمل فيه الجوالات أو قطع القماش (الثياب القديمة). ويقوم به اثنان ونجده رائجاً في فترة انحسار المياه (نزول البحر) خاصة عندما توجد الأسماك بوفرة وأهمها الحميلات والعار (صغار البلطي).
طرق حفظ السمك:
- التبريد .. وهذا نجده في العربات المبردة (الثلاجات)، التي توجد بكثرة عند مناطق الإنتاج على مجرى النيل، حيث يجمع السمك ويحفظ إنتاج عدة أيام ثم يودع الأسواق (خاصة أسواق الخرطوم).
- التجفيف.. وهو ما يسمى بـ"الكجيك"، حيث يشقق السمك ويغطى بطبقة رقيقة جداً من دقيق الذرة الفتريتة (في بعض الحالات)، ومن ثم يجفف تحت أشعة الشمس على ضفاف الأنهار قرب مناطق الإنتاج (ويعدّ النوق أجود الأنواع المجففة لغناه بالدهون)، ويؤكل الكجيك في شكل "مُلاح بالعصيدة"، حيث يتم جمع اللحم المجفف بعض تخليصه من الشوك وفركه أو طحنه يدوياً.. وعادة ما يضاف أليه مسحوق البامية (الويكة).
و"الكجيك" من أهم مصادر البروتينات في كل الأغذية المعروفة، لهذا يعدّ الغذاء الرئيسي لعمال الزراعة والحصاد في المشاريع المطرية. ومن أهم الأنواع التي تستعمل في "الكجيك" هي القرموط والنوق (أبو قرف) والوير والبلطي .. يستهلك معظم الإنتاج داخلياً،  حيث يعبأ في جوالات ويرسل إلى مناطق إنتاج الذرة بالقضارف والمقينص.. كما يتم تصدير نسبة مقدرة إلى مناطق غرب أفريقيا.. وتمتهن قبائل الفلاتة المنتشرة على جنوب النيلين الأبيض والأزرق مهنة إعداد "الكجيك" في كل مراحله (صيده وتجفيفه وتعبئته)، وتستعمل قوارب صغيرة لا يتجاوز عرضها (70) سم وتسمى بالفلوكا.. ويستعمل بعضها الآخر الطوف.. وهو مصنوع من الخشب الطرور.
- التمليح .. صناعة الفسيخ والملوحة.. وتشتهر مناطق النيل الأبيض خاصة منطقة الدويم وجنوب كوستي حتى الجبلين بإنتاج أجود أنواع الفسيخ.. وأهم الأسماك المستعملة في الفسيخ هو الكاس وهو أعلاها درجة في الجودة تليه الكوارة والحميلات، أما الدبسة فيتميز فسيخها بمرارة الطعم وكثرة الشوك.
ختاماً.. أود أن أذكر أن أسماك النيل في جملتها تعدّ عند العلماء والمختصين من أجود أنواع الأسماك من ناحية التركيب الغذائي وخلوها من السموم مقارنة بالأسماك التي تعيش في بيئات ترتفع فيها نسبة التلوث، خاصة وأن أنهارها تعدّ بكراً لم تختلط بمخلفات التصنيع وملوثاته، كما أن الاستثمار في الأسماك يعدّ واحداً من أجود أنواع الاستثمار نسبة للعائد المجزي والأرباح الكبيرة مقارنة برأس المال المستثمر، كل ذلك مترافقاً مع سوق داخلي كبير مُتنامٍ وسوق خارجي متسارع الطلب.
مجلة "مذاق خاص"
عدد الفصل الثالث 2019
مجلة الغذاء والصحه الاولي في السودان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق