الأحد، 23 فبراير 2020

الكسرة ومائدة الشمس د. جعفر مرغني مجلة "مذاق خاص"

الكسرة ومائدة الشمس
 د. جعفر مرغني
مجلة "مذاق خاص"
   روى هيردوت أبو التاريخ منذ القرن الخامس قبل الميلاد:   
     لما أستولى "قابوس" ملك الفرس على مصر في القرن السادس قبل الميلاد أرسل جواسيسه على هيئة سفارة دبلوماسية إلي مروي ليأتوه بأخبار السودان، خاصة ما تسامع به الناس عن وجود مايسمى "مائدة الشمس" في تلك المدينة السودانية العتيقة. فلما رجع إلي "قابوس" سفراؤه كان مما حدثوه به عن مائدة الشمس" أنها ساحة بظاهر البلد يحرص "الفقهاء" على ملئها بأطباق من صنوف الطعام واللحم المسلوق ليقدم لمن كان بحاجة أو شاءت ظروفه أن يغشاها. فيأكل الناس بغير حساب.
   كان حرياً بالملك الفارسي أن يثير إعجابه مثل ذلك الخبر، فالفرس أهل تدبير وترشيد للصرف ينظرون لكثير من وجوه الكرم المبالغ فيه على أنه خرق وتبذير كما أشار الجاحظ. كما كان خليقاً بكتاب الغرب منذ القرن الثاني للميلادي إلي "هيرن" في القرن التاسع عشر أن يقفوا بين مشكك رواية هيردوت وبين محاول أن يجد تفسيرأً لظاهرة المائدة تقبله أوربا. وقد عز عليهم أن يفهموا كيف يجمع الفقهاء مئات الروؤس من النعم ثم يقدموها طعاماً بغير حساب. كما ظن هيرن أنه ضرب من التجارة الصامتة. يوضع الطعام ليضع من يأكله عوضاً عنه من الذهب والعاج وماشابه. ولعل تولي "الفقهاء" للمهمة هو الذي جعل رجلاً مثل هيرن يذهب إلي ماذهب إليه. لكن كلام هيردوت واضح الابانه عن أن المائدة كانت مفتوحة لمن شاء ولم يقل انها لمن يحضر صنوف التجارات.
         الذي حفظه هيردوت رواية عن سفراء "قابوس" منذ القرن السادس قبل الميلاد في شأن "مائدة الشمس" بمدينة مروي القديمة قد يفهمه جيداً من درس تاريخ السودان الاجتماعي ووعى مادونه صاحب الطبقات وغيره ممن عاصروا عهوداً كان لا يزال السودان فيها أرضاً بكراً  ماغزاها فاجتاحها غريب. فمثل هذه الموائد المفتوحة التي يتولاها الفقهاء كانت تسير جنباً إلي جنب مع رسالتهم التعليمية ومن هنا يكرر  صاحب الطبقات في حق من يؤرخ لهم من رجال التربية والتعليم:- أن فلاناً أو فلاناً " أوقد نار العلم ونار الكرم"، ولا يختلف الوصف عن ما جاء به هيردوت من أنها ساحة واسعة في ظاهر البلد حيث تقوم الخلوة وأنها تستقبل الوراد من كل لون فيطعمون بلا حساب.
     قال في ترجمة الشيخ ادريس ولد الارباب " يقال أن قُداحته التي يقدم فيها الطعام بلغت ستين قدحاً والكسرة مديدة يسوطها الفقراء ومعهم الخدم في البرام شادين في وسطهم المناطق (يعني متحزمين). وفي ترجمة الشيخ حسن ولد حسونة والشيخ بدوي أبودليق أطراف من ذلك. لكن أطرف الحديث ما يرويه صاحب الطبقات في ترجمة "مازري بن التنقار" من أنه سأل شيخه ادريس ود الأرباب عن اسم الله الأعظم. فقال له: حتي يحضر حمد ولدي اديك ما سألتني منه. قال فلما جاء حمد قام الشيخ ادريس استند عليه وعلى مازري – وكان تقدمت به السن- ومشي بينهما حتى دخل بيت النار فوجدوا فيه الحريم الخدم والفقرا ناس الطريق شادين المناطق يسوطوا الكسرة في البرام الضيفان فقال الشيخ ادريس لمازري "وحات الله وحات الرسول ماعندي اسم غير هذه المديدة!
            قال في ترجمة الشيخ عبدالرازق أبوقرون " وكان رضي الله عنه يحث على الكرم ويقول: الكسرة اسم عظيم. ودرع حصين وحجة بلا قسا. وولاية بلا تعب. اليغَلبِو الصيام والقيام اليدٌي الكسرة. وكان يقول: قمنا حتى انضنيننا. وعبدنا حتى انحنينا ما لقينا حتى مُدت يدينا" يعني بالعطايا.
       كان هذا الرزق المبذول يأتي بعد مال الشيخ الخاص من مصدرين: ما تعطيه السلطنة وكانوا يسمونه " الجاه" ويقولون "جوهه" أي أعطاه السلطان كذا وكذا.
   ثم ما يجود به المواطنيين على وجه الهدية ويسمونه "الزيارة" وفي بعض ما يروي صاحب الطبقات من أن الشيخ محمد ودفايد حوار الشيخ ادريس كان يقدم كل عام لزيارة الشيخ من البحر المر وتحضر معه قبايل الشرق عرب أُكد وعرب التاكه وغيرهم يجو دافرين مثل قبايل جهينة في الكثرة منهم من شايل العسل ومنهم من شايل القماش ومنهم من معه الرقيق والابل كل واحد على قدر قدرته. في قصص غير هذه ومع مشايخ أخرين تشهد بتضافر جهود الفقهاء والدولة والشعب في الحفاظ على هذه العادة الأصيلة التي وجدنا أقدم تسجيل لها عند هيردوت منذ القرن الخامس قبل الميلاد فكان تواردهم عليها ناطقاً بمعنى قول لبيد:
من معشر سنُت لهم آباؤهم  **  ولكل قوم سنة وإمامها
حتى تعلَم الناسُ الكنز مع الثراء، والتكسُب بالغلا، وحرمان الفقراء فسبحان مغير الأحوال!
مذاق خاص - 2020
مجلة التغذية والصحة الاولي في السودان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق