إجازة صيفية بمذاق الجبن والفسيخ
محمد أمين أبو العواتك
مجلة "مذاق خاص"
يأتي موسم الإجازات الصيفية في السودان قديماً بعد انتهاء العام الدراسي في وقت موحّد لكل المراحل الدراسية بدرجاتها المختلفة في ذلك الزمان "ابتدائي، عام وعالي"، فكانت غالب المدارس حكومية قبل ظهور المدارس الخاصة وتراجع دور الدولة شيئاً فشيئاً مع التراجع العام الملحوظ في جودة الخدمات المقدمة في مجالات عدة.
تتهيأ الأسر السودانية المنتشرة جغرافياً في كل خارطة الوطن الكبير حسب احتياجات الخدمة المدنية وسياساتها الطموحة في ذلك الزمان في ربط نسيج الوطن الاجتماعي تمازجاً جميلاً بين مختلف مكوناته وإثنياته حتى صارت كل المدن السودانية كشكولاً ملوّناً جميلاً وتداخلاً طبيعياً حميماً، تتهيأ هذه الأسر للإجازة السنوية منذ مدة طويلة يتفق عليها في الغالب منذ الإجازة التي سبقت، فتشهد فترتها في الغالب المناسبات الاجتماعية الجامعة للأهل كالزواج والختان وغيرهما، وترتب الأسر أحوالها وفقاً لذلك طوال العام تخطيطاً وتجهيزاً على أن القبلة الأساسية لكل الإجازات في الغالب هي للبيت الكبير في مسقط الرأس، حيث الجد والجدة، وتستخرج تصاريح السفر على السكة الحديد منذ فترة وكذلك الشراء الشهري لهدايا الإجازة، التي تكون في الغالب من خيرات المنطقة، فأهل دارفور وكردفان لديهم خيرات واسعة من المنتجات الزراعية والغابية كالتبلدي والكركديه والقضيم والفول السوداني خاصة المسحون وأنواع الشطة الحارة والسمن البلدي، وتفضل ربات البيوت كذلك الأدوات المنزلية كأطباق الأكل المزخرفة (الطُّباقة) التي تستخدم لتغطية الأكل وتصنع من المواد المحلية كالسعف وتشتهر بها تلك المناطق، بجانب أداة النظافة المشهورة (المُقشاشة)، و(المُفراكة) وهي أداة تستخدم في تنعيم الخضار أثناء الإعداد عن طريف الفرك، فأطباق الطعام المفروك في السودان من الخضار تعد أحد أهم الأطعمة التقليدية في وجبة الغداء كالبامية والملوخية والشمار والورق الأخضر مع الكسبرة وغيرها من الأطباق السودانية المميزة.
أهل الصعيد كذلك لهم خيرات متعددة وتكون غالب هدايا الإجازة من المنتجات الزراعية والتوابل الفاكهة التي تتميز بها بعض أنحاء شرق السودان كمنطقة كسلا التي تجاور كذلك مناطق البن الحبشي، أما الشمال فالبلح والفول المصري والشمار والكسبرة، ويهدي أهل الجنوب وجبال النوبة ثمار الغابة السودانية وعسل النحل الأصلي، كما تشتهر شطة الجبال، وتتميّز هدايا البحر الأحمر بمظهر مختلف كطبيعة المدن الساحلية والموانئ التي تمثل لنا في ذلك الزمان دهشة ومفاجآت جميلة قبل الانفتاح الاقتصادي والعولمة وتطور وسائل الاتصال والفضائيات.
العائلات الكبيرة الممتدة في جميع أنحاء السودان تتوزع أسرها الصغيرة ما بين التجارة والوظيفة العامة في مختلف تخصصاتها كالصحة والتعليم والجمارك والمجالس البلدية والشركات الخاصة، كعائلتنا الكبيرة التي هي نموذج مثالي يمثل أهل السودان بين يدي الحكومات التي أعقبت الاستقلال بأنواعها حتى فترة الرئيس نميري أو ما يعرف بفترة ثورة مايو، فكانت تلتقي كل هذه الأسر في البيت الكبير في الدويم بحر أبيض، كل يحمل هداياه من خيرات جغرافيته ويصير البيت الكبير كخلية نحل، خاصة نحن الصغار، بطاقة تزيد عن المعتاد وكل تلك المعارك والمغامرات.
المدن على ضفاف الأنهار التي تحتشد بها بلادي جعلت الأسماك ومنتجاتها من المكونات الرئيسية للغذاء، وظلت ممارسات وطقوس إعدادها وتخزينها وتخميرها موروثاً ثقافياً مهولاً تفنن أهل السودان فيه بمختلف مذاقاتهم وأمزجتهم على مر حضاراتهم عبر التاريخ، ليصير البيض وتلوينه والبصل والفسيخ رموزاً احتفالية وأعياداً يُحتفى بها كل عام.
سرعان ما تنتهي إجازة الصيف الحافلة بالأحداث ومختلف المناسبات، ويبدأ برنامج العودة وهنا يبدأ مظهر جديد لموروث أهل السودان في الكرم والتقدير للآخر من جميع الأهل والمعارف، وهي مراسم الوداع، وتشتهر الدويم كإحدى حواضر بحر أبيض بالجبن والفسيخ في تلك الصفائح الحديدية الصغيرة المميزة والمشهورة، التي تبدلت بمرور الأيام إلى البلاستيك، وعادة تمثل المحصلة النهائية للوداع كمية كبيرة من عبوات الجبن والفسيخ التي تصلح أن تكون رأس مال تجاري لبداية مشروع استثماري ويكون عبء حملها للديار مشكلة خاصة إذا كانت المحطة الأخيرة الأبيض أو بورتسودان!!
وفسيخ بحر أبيض من النوعيات المميزة في السودان، ويصنع من أنواع مختلفة من الأسماك كالكوارة والدبس ألا أن أجود أنواعه تصنع من سمك (الكاس) المعروف، وطوّر البعض تصنيعه بسحنه لتُنتج بودرة الفسيخ تسهيلاً لإعداده، على أن واقع الصناعة ظل كما هو في بدائيته مع كل هذه الموارد المهولة.. ترى من سيصنع الفرق؟!
مجلة " مذاق خاص"-٢.١٩
مجلة التغذية و الصحة الاولي في السودان
محمد أمين أبو العواتك
مجلة "مذاق خاص"
يأتي موسم الإجازات الصيفية في السودان قديماً بعد انتهاء العام الدراسي في وقت موحّد لكل المراحل الدراسية بدرجاتها المختلفة في ذلك الزمان "ابتدائي، عام وعالي"، فكانت غالب المدارس حكومية قبل ظهور المدارس الخاصة وتراجع دور الدولة شيئاً فشيئاً مع التراجع العام الملحوظ في جودة الخدمات المقدمة في مجالات عدة.
تتهيأ الأسر السودانية المنتشرة جغرافياً في كل خارطة الوطن الكبير حسب احتياجات الخدمة المدنية وسياساتها الطموحة في ذلك الزمان في ربط نسيج الوطن الاجتماعي تمازجاً جميلاً بين مختلف مكوناته وإثنياته حتى صارت كل المدن السودانية كشكولاً ملوّناً جميلاً وتداخلاً طبيعياً حميماً، تتهيأ هذه الأسر للإجازة السنوية منذ مدة طويلة يتفق عليها في الغالب منذ الإجازة التي سبقت، فتشهد فترتها في الغالب المناسبات الاجتماعية الجامعة للأهل كالزواج والختان وغيرهما، وترتب الأسر أحوالها وفقاً لذلك طوال العام تخطيطاً وتجهيزاً على أن القبلة الأساسية لكل الإجازات في الغالب هي للبيت الكبير في مسقط الرأس، حيث الجد والجدة، وتستخرج تصاريح السفر على السكة الحديد منذ فترة وكذلك الشراء الشهري لهدايا الإجازة، التي تكون في الغالب من خيرات المنطقة، فأهل دارفور وكردفان لديهم خيرات واسعة من المنتجات الزراعية والغابية كالتبلدي والكركديه والقضيم والفول السوداني خاصة المسحون وأنواع الشطة الحارة والسمن البلدي، وتفضل ربات البيوت كذلك الأدوات المنزلية كأطباق الأكل المزخرفة (الطُّباقة) التي تستخدم لتغطية الأكل وتصنع من المواد المحلية كالسعف وتشتهر بها تلك المناطق، بجانب أداة النظافة المشهورة (المُقشاشة)، و(المُفراكة) وهي أداة تستخدم في تنعيم الخضار أثناء الإعداد عن طريف الفرك، فأطباق الطعام المفروك في السودان من الخضار تعد أحد أهم الأطعمة التقليدية في وجبة الغداء كالبامية والملوخية والشمار والورق الأخضر مع الكسبرة وغيرها من الأطباق السودانية المميزة.
أهل الصعيد كذلك لهم خيرات متعددة وتكون غالب هدايا الإجازة من المنتجات الزراعية والتوابل الفاكهة التي تتميز بها بعض أنحاء شرق السودان كمنطقة كسلا التي تجاور كذلك مناطق البن الحبشي، أما الشمال فالبلح والفول المصري والشمار والكسبرة، ويهدي أهل الجنوب وجبال النوبة ثمار الغابة السودانية وعسل النحل الأصلي، كما تشتهر شطة الجبال، وتتميّز هدايا البحر الأحمر بمظهر مختلف كطبيعة المدن الساحلية والموانئ التي تمثل لنا في ذلك الزمان دهشة ومفاجآت جميلة قبل الانفتاح الاقتصادي والعولمة وتطور وسائل الاتصال والفضائيات.
العائلات الكبيرة الممتدة في جميع أنحاء السودان تتوزع أسرها الصغيرة ما بين التجارة والوظيفة العامة في مختلف تخصصاتها كالصحة والتعليم والجمارك والمجالس البلدية والشركات الخاصة، كعائلتنا الكبيرة التي هي نموذج مثالي يمثل أهل السودان بين يدي الحكومات التي أعقبت الاستقلال بأنواعها حتى فترة الرئيس نميري أو ما يعرف بفترة ثورة مايو، فكانت تلتقي كل هذه الأسر في البيت الكبير في الدويم بحر أبيض، كل يحمل هداياه من خيرات جغرافيته ويصير البيت الكبير كخلية نحل، خاصة نحن الصغار، بطاقة تزيد عن المعتاد وكل تلك المعارك والمغامرات.
المدن على ضفاف الأنهار التي تحتشد بها بلادي جعلت الأسماك ومنتجاتها من المكونات الرئيسية للغذاء، وظلت ممارسات وطقوس إعدادها وتخزينها وتخميرها موروثاً ثقافياً مهولاً تفنن أهل السودان فيه بمختلف مذاقاتهم وأمزجتهم على مر حضاراتهم عبر التاريخ، ليصير البيض وتلوينه والبصل والفسيخ رموزاً احتفالية وأعياداً يُحتفى بها كل عام.
سرعان ما تنتهي إجازة الصيف الحافلة بالأحداث ومختلف المناسبات، ويبدأ برنامج العودة وهنا يبدأ مظهر جديد لموروث أهل السودان في الكرم والتقدير للآخر من جميع الأهل والمعارف، وهي مراسم الوداع، وتشتهر الدويم كإحدى حواضر بحر أبيض بالجبن والفسيخ في تلك الصفائح الحديدية الصغيرة المميزة والمشهورة، التي تبدلت بمرور الأيام إلى البلاستيك، وعادة تمثل المحصلة النهائية للوداع كمية كبيرة من عبوات الجبن والفسيخ التي تصلح أن تكون رأس مال تجاري لبداية مشروع استثماري ويكون عبء حملها للديار مشكلة خاصة إذا كانت المحطة الأخيرة الأبيض أو بورتسودان!!
وفسيخ بحر أبيض من النوعيات المميزة في السودان، ويصنع من أنواع مختلفة من الأسماك كالكوارة والدبس ألا أن أجود أنواعه تصنع من سمك (الكاس) المعروف، وطوّر البعض تصنيعه بسحنه لتُنتج بودرة الفسيخ تسهيلاً لإعداده، على أن واقع الصناعة ظل كما هو في بدائيته مع كل هذه الموارد المهولة.. ترى من سيصنع الفرق؟!
مجلة " مذاق خاص"-٢.١٩
مجلة التغذية و الصحة الاولي في السودان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق