الأحد، 3 مايو 2020

الزمان ما بين شربات الليمون وعصير ليمون نعناع محمد أمين أبو العواتك مجلة "مذاق خاص"

الزمان
ما بين شربات الليمون
وعصير ليمون نعناع

محمد أمين أبو العواتك
مجلة "مذاق خاص"
البيوت السودانية، كان ما يميزها على الدوام تخطيط البيت الداخلي وتوزيع مبانيه ووحداته من التّكُل (المطبخ) والراكوبة والمخزن الذي يحتوي مؤونة العام، ويمثل أهم اهتمامات رب الأسرة وكامل عناية الأم، على أن الفضاء الأمامي داخل البيت (الحوش) يأخذ عناية خاصة ومسؤولة عنه كبرى البنات وأخواتها، الذي يُكنس ويُرش بالماء قبل غزو البلاط والسيراميك، ويتم فرش (العناقريب) أو الأسرّة السودانية التقليدية التي تُصنع من المواد المحلية قبل استبدالها بالأسرّة الحديدية، ويبدأ هذا الإجراء اليومي عصراً قبل زوال الشمس نحو المغيب.. على أن أهم ما في الحوش كانت شجرة الليمون وبعض أشجار الحناء، وتتنوع الأشجار المثمرة حسب الجغرافيا والإرث الشعبي في كل منطقة.
و"مذاق خاص" كمجلة متخصصة تبحث في عمق المجتمع السوداني تنقيباً عن موروثات التغذية الأصيلة المتوائمة مع البيئة لأهل السودان لإعادة بعثها كحلول ناجعة صمدت طوال السنوات في حفظ التوازن الغذائي للأسر وفرة واقتصاداً وقيمة غذائية وصحية، وكما كتبنا عن إستراتيجية المواسم، أهمّ أدوات الأسر في الحفاظ على استقرار الإمداد الغذائي وكلفته، نكتب هنا عن غياب هذا الفكر المهتم بتأمين احتياجات الأسرة بما هو متاح بين أيدينا فاخترنا تغيير نمط الحياة مجاراة لتطور مظهري لا يخاطب احتياجات المعاش اليومية، فغابت شجرة الليمون التي كانت تزرع جوار ماسورة المياه في الحوش الأمامي!!
جانب آخر في البيوت السودانية هو "حوش الديوان" الخاص بالرجال الذي يُولى عناية خاصة لأنه يضم مجلس الوالد وله طقوس أخرى مختلفة، تضم "برش" الصلاة الذي يُصنع من السعف والمواد المحلية كالحصير في الغالب والسجاد، وتطور لاحقاً إلى المواد البلاستيكية.. وما يميز حوش الديوان كذلك وجود شجرة لليمون أيضاً تصاحبها شجرة أخرى للجوافة، وتتعدد الأنواع حسب المناخات والمزاج الشعبي.
"كباية الليمون المعصور" هي العنوان الأبرز للضيافة في كل البيوت السودانية، لأن ثمار الليمون تُقطف طازجة من شجرة الليمون المنزلية أو حتى من شجرة ليمون الجيران.. فبعد السلام والتحية للزائر أو الضيف سرعان ما يقدم الليمون المعصور على مياه من الأزيار الفخارية الباردة، فلم يكن لمعظم البيوت قديماً مبردات أو ثلاجات وذلك قبل غزو مشروبات المياه الغازية التي عصفت بصحة الإنسان وتوازنه الغذائي قبل أن تعصف بهذا الإرث الجميل.
كما كان الليمون حضوراً في الثقافة السودانية والأغاني منذ القدم واشتهر في أغاني الحماسة والحرب العالمية الثانية:
الله ليَّ
الليمون سقايتو عليَّ
يا حاجة لا
وكذلك اشتهرت أغنية (ليمون بارا) للدكتور عبد القادر سالم.. والليموني وكلنا يتذكر كلمات ورجاءات الأم والأخوات.. لكل زائر مستعجل: (النبي.. تقعد تشرب كباية ليمون).
ونحن كأطفال كنا نسعد بذلك لأننا كنا نتسلل مباشرة إلى المطبخ لشرب متبقي العصير خاصة أيام الصيف.. فلا يزال طعم ذلك العصير في الخاطر.
غابت شجرة الليمون عن فضاءات البيوت السودانية مع تغير ثقافة الأسر بادعاء التطور بتفضيل المنتجات الحديثة وأصبح احتياج الليمون للأكلات وصنع السلطات وصحن محدقات الشطة السودانية الشهير.. وأصبحت الأسر السودانية تشتري احتياجها من الأسواق فانعدم الإنتاج المنزلي، وبالتالي ازداد الطلب مع ازدياد عدد السكان وقلة المعروض وموسميته حتى وصل سعر الكيلو اليوم إلى أرقام فلكية فاضحينا نردد مع الفنان محمد سلام:
وقام اتعزّز الليمون
عشان بالغنا في ريدو
بعد أن كانت تتناوله الأيدي طازجاً من شجرة الحوش!!
مجلة "مذاق خاص"
رمضان ٢٠٢٠

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق