صباحات بحر أبيض
محمد امين ابوالعواتك
اخر الاوراق-عدد الفصل الثاني 2018
الجدة أو (الحبوبة) كما يحلو لأهل السودان تسميتها هي قلب الحنان الأسري الدافق، ونبض البيت الكبير وحضنه الدافئ، والملاذ الأخير لكل حلول التقاطعات الأسرية بأنواعها كافة. والحبوبة في الأسرة السودانية هي التي تشكل ملامح الأجيال ببصمتها الوراثية منذ هدهدة الميلاد الأولى وبداية تشكُّل الأشياء في مخيلة الصغار في محطات الطفولة الباكرة، وأهمها التحلق حولها صباحاً من بعد الفجر لشرب شاي الصباح بـ(الزلابيا) أو (اللقيمات) في الموروث الشعبي السوداني.
البيت الكبير هو عماد الأسرة، الذي يسكنه الجد والحبوبة ويسكن عادة معهما عدد من أسر الأبناء أو البنات في أجزاء ملحقة لها خصوصيتها في التقسيم الداخلي، وهي تتمدد كل مرة بدخول أعضاء جدد للحياة الزوجية مع احتفاظ المطبخ الكبير بخصوصيته للكل وتوزيع أنشطته على الجميع. ويزداد تعداد أهل البيت الكبير في مواسم الإجازات المدرسية بزيارات الأسر التي تسكن في مدن أخرى، فيمتلئ البيت بمجموعات الأحفاد بمختلف ميولهم وتفضيلاتهم المؤتلفة أو المختلفة.
في ذاك الزمان وقبل (لمة) شاي الصباح والتحلق حول حبوبة (عشة) عليها الرحمة والرضوان، وهو الاسم الخفيف المستخدم للاسم (عائشة)، يكون مشوار الصباح الباكر لشراء اللقيمات من بيت الخالة (أسماء بت الجاك) كعادة أهل المدن الصغيرة في بلادي أن تكون فيها بعض الأسر التي اشتهرت بممارسة هذه المهنة عبر السنوات كمصدر دخل والأهم بالنسبة لنا مهارة وخبرة إعداد لقيمات شهية صارت عبر السنوات نكهة مميزة وذكريات محببة، ومنظر ذلك القدح الكبير في تلك (البرندة) الجانبية في منزلهم المجاور للنيل وهو يمتلئ بمئات من قطع اللقيمات الذهبية التي تلمع وتتوهج مع حركة التقليب الدائرية المستمرة لها بتلك (الكمشة) المخرمة أو المقصوصة.
بعد تظاهرة من الجمع المحتشد للحصول على حق أولوية الشراء من الخالة أسماء وسط دعاوى الآخرين بالحضور المبكر، نعود مسرعين في تلك الصباحية محملين بالكنز الذهبي ويضمنا مجلس حبوبة عشة الصباحي، التي يكون أمامها أو أمام إحدى خالاتنا عدد موقدين أو الكانون، كما اشتهر بذلك في تلك الأنحاء، أحدهما فيه (حلة) اللبن الكبيرة التي يغطي سطحها طبقة من قشطة اللبن التي يميل لونها إلى الاصفرار أو كما يحلو لأجيالنا (الجمادة) التي تُجنَّب في بعض الأحيان لصناعة السمن البلدي، والموقد الآخر تعتليه (كفتيرة) الشاي الكبيرة، حيث تبدأ مراسم شاي الصباح التي قد يتخللها بعض الحوادث في مكان الجلوس أو إطاحة أحدهم بكباية شاي آخر أو الصحن الذي يحتوي على حصته من اللقيمات وسط احتجاجات صاحبه، وسرعان ما تسوي حبوبة النزاع من حصتها الكبيرة التي تكون عادة لمعالجة مثل هذه الحالات تعويضاً صباحياً سريعاً.
ما أن تنقشع شمس الصباح، حتى يبدأ إيقاع اليوم من سلام الصباحية وكيف أصبحتوا من وراء الحيطة المجاورة من داخل منزل الخال حماد، ودخول حبوبة فطين شقيقة حبوبة عشة، التي تسكن في الحوش المجاور الموصول بالبيت الكبير للتحية الصباحية الراتبة أو التوصية لجلب أغراض لها مع مشوار السوق الصباحي أو طحين عيش الكسرة في طاحونة عمنا القدال "رحمهما الله".
المدن السودانية الصغيرة تزدحم بسبل كسب العيش التي تمارسها الأمهات، وفي ذلك الزمان الجميل كانت (ستات اللبن) من نساء القرى المحيطة يقمن بذلك الدور الاقتصادي، وكان على الدوام يوجد بيت من بيوت الأحياء يكون محطة لكل مجموعة منهن، وهي أدوار كانت تؤدى بالحمار الذي يحمل اللبن على جنبتيه تمن اللبن بلونها الفضي المميز وبعض خيرات القرى كالسمن والويكة (طحين البامية المجفف)، وأحياناً عبوة صغيرة من الذرة أو الدجاج البلدي لبيعها ومن ثم شراء ما يحتجن إليه بقيمتها.
وكان بيتنا الكبير إحدى هذه المحطات، يتناولن فيه وجبة الإفطار ثم يذهبن إلى السوق المجاور لشراء الاحتياجات من شاي وبن والعودة لشرب القهوة والونسة، والمتعة بالنسبة لنا في هذه الفترة من اليوم كانت مغامرة سرقة حمار اللبن الذي يكون في العادة مربوطاً في ظل الشجرة الخارجية بعد إنزال اللبن منه للتنزه به داخل الحي على طريقة أفلام الكاوبوي في ذلك الزمان، إلا أن المغامرة عادة ما تُختَتم بعد أن يكون خبرها قد وصل (حاجة آمنة) صاحبة الحمار، وينتهي الأمر بالقفز من على ظهره والهروب في الأزقة المجاورة.
محمد امين ابوالعواتك
اخر الاوراق-عدد الفصل الثاني 2018
الجدة أو (الحبوبة) كما يحلو لأهل السودان تسميتها هي قلب الحنان الأسري الدافق، ونبض البيت الكبير وحضنه الدافئ، والملاذ الأخير لكل حلول التقاطعات الأسرية بأنواعها كافة. والحبوبة في الأسرة السودانية هي التي تشكل ملامح الأجيال ببصمتها الوراثية منذ هدهدة الميلاد الأولى وبداية تشكُّل الأشياء في مخيلة الصغار في محطات الطفولة الباكرة، وأهمها التحلق حولها صباحاً من بعد الفجر لشرب شاي الصباح بـ(الزلابيا) أو (اللقيمات) في الموروث الشعبي السوداني.
البيت الكبير هو عماد الأسرة، الذي يسكنه الجد والحبوبة ويسكن عادة معهما عدد من أسر الأبناء أو البنات في أجزاء ملحقة لها خصوصيتها في التقسيم الداخلي، وهي تتمدد كل مرة بدخول أعضاء جدد للحياة الزوجية مع احتفاظ المطبخ الكبير بخصوصيته للكل وتوزيع أنشطته على الجميع. ويزداد تعداد أهل البيت الكبير في مواسم الإجازات المدرسية بزيارات الأسر التي تسكن في مدن أخرى، فيمتلئ البيت بمجموعات الأحفاد بمختلف ميولهم وتفضيلاتهم المؤتلفة أو المختلفة.
في ذاك الزمان وقبل (لمة) شاي الصباح والتحلق حول حبوبة (عشة) عليها الرحمة والرضوان، وهو الاسم الخفيف المستخدم للاسم (عائشة)، يكون مشوار الصباح الباكر لشراء اللقيمات من بيت الخالة (أسماء بت الجاك) كعادة أهل المدن الصغيرة في بلادي أن تكون فيها بعض الأسر التي اشتهرت بممارسة هذه المهنة عبر السنوات كمصدر دخل والأهم بالنسبة لنا مهارة وخبرة إعداد لقيمات شهية صارت عبر السنوات نكهة مميزة وذكريات محببة، ومنظر ذلك القدح الكبير في تلك (البرندة) الجانبية في منزلهم المجاور للنيل وهو يمتلئ بمئات من قطع اللقيمات الذهبية التي تلمع وتتوهج مع حركة التقليب الدائرية المستمرة لها بتلك (الكمشة) المخرمة أو المقصوصة.
بعد تظاهرة من الجمع المحتشد للحصول على حق أولوية الشراء من الخالة أسماء وسط دعاوى الآخرين بالحضور المبكر، نعود مسرعين في تلك الصباحية محملين بالكنز الذهبي ويضمنا مجلس حبوبة عشة الصباحي، التي يكون أمامها أو أمام إحدى خالاتنا عدد موقدين أو الكانون، كما اشتهر بذلك في تلك الأنحاء، أحدهما فيه (حلة) اللبن الكبيرة التي يغطي سطحها طبقة من قشطة اللبن التي يميل لونها إلى الاصفرار أو كما يحلو لأجيالنا (الجمادة) التي تُجنَّب في بعض الأحيان لصناعة السمن البلدي، والموقد الآخر تعتليه (كفتيرة) الشاي الكبيرة، حيث تبدأ مراسم شاي الصباح التي قد يتخللها بعض الحوادث في مكان الجلوس أو إطاحة أحدهم بكباية شاي آخر أو الصحن الذي يحتوي على حصته من اللقيمات وسط احتجاجات صاحبه، وسرعان ما تسوي حبوبة النزاع من حصتها الكبيرة التي تكون عادة لمعالجة مثل هذه الحالات تعويضاً صباحياً سريعاً.
ما أن تنقشع شمس الصباح، حتى يبدأ إيقاع اليوم من سلام الصباحية وكيف أصبحتوا من وراء الحيطة المجاورة من داخل منزل الخال حماد، ودخول حبوبة فطين شقيقة حبوبة عشة، التي تسكن في الحوش المجاور الموصول بالبيت الكبير للتحية الصباحية الراتبة أو التوصية لجلب أغراض لها مع مشوار السوق الصباحي أو طحين عيش الكسرة في طاحونة عمنا القدال "رحمهما الله".
المدن السودانية الصغيرة تزدحم بسبل كسب العيش التي تمارسها الأمهات، وفي ذلك الزمان الجميل كانت (ستات اللبن) من نساء القرى المحيطة يقمن بذلك الدور الاقتصادي، وكان على الدوام يوجد بيت من بيوت الأحياء يكون محطة لكل مجموعة منهن، وهي أدوار كانت تؤدى بالحمار الذي يحمل اللبن على جنبتيه تمن اللبن بلونها الفضي المميز وبعض خيرات القرى كالسمن والويكة (طحين البامية المجفف)، وأحياناً عبوة صغيرة من الذرة أو الدجاج البلدي لبيعها ومن ثم شراء ما يحتجن إليه بقيمتها.
وكان بيتنا الكبير إحدى هذه المحطات، يتناولن فيه وجبة الإفطار ثم يذهبن إلى السوق المجاور لشراء الاحتياجات من شاي وبن والعودة لشرب القهوة والونسة، والمتعة بالنسبة لنا في هذه الفترة من اليوم كانت مغامرة سرقة حمار اللبن الذي يكون في العادة مربوطاً في ظل الشجرة الخارجية بعد إنزال اللبن منه للتنزه به داخل الحي على طريقة أفلام الكاوبوي في ذلك الزمان، إلا أن المغامرة عادة ما تُختَتم بعد أن يكون خبرها قد وصل (حاجة آمنة) صاحبة الحمار، وينتهي الأمر بالقفز من على ظهره والهروب في الأزقة المجاورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق